-->

الشاعر الذي خذله الإهمال والقدر

فاطمة ناعوت

"أنتَ جميلٌ يا أسامة" - "كتّر خيرك يا ستي أنتِ الأجمل، أرجو أن يكون الكلامُ حاز إعجابكِ" - "طبعًا لَعَنْتُكَ ألفَ مرة، وفي كل سطر، لكن، مَنْ غير شاعرٍ مثلك بوسعِه أن يحوّلَ العذابَ إلى عذوبة؟ واللعنةَ إلى جمال!". كانت هذه كلماتنا الأخيرة عبر الإيميل بعد قراءتي قصائد "كلبي الهِرمْ، كلبي الحبيب" التي نشرها أسامة الدناصوري في "أخبار الأدب" أخيراً وصدرت قبل أيام في كتاب عن دار "ميريت". 

أصدر دواوينه الأربعة في طبعات خاصة محدودة فراراً من مزاحمة طوابير المبدعين حول دور نشر المؤسسات الحكومية، وأما كتابه النثري الأخير فقد خانه، مثلما الصحابُ يخونون، ورأى النورَ بعدما انطفأ النورُ في عيني صاحبه. حقّاً إن الشعراءَ مخونون! مات الشاعرُ قبل أن يفرح بكتابه الجميل الذي فتنَ وأبكى كلَّ من عرفه وكلَّ من لم يعرفه. جاء السردُ على هيئة قطعة من النثر الفنيّ رفيع المستوى فيما يشبه السيرة الذاتية الأدبية. لغةٌ شعرية رشيقة يثبُ فيها الشاعرُ بخفّةٍ بين درجات الفصحى والفصيحة والدارجة المصرية. دراما مكثفة لا تخلو من حوارات بينه وبين أطراف جمعته بهم دوائرُ الصداقةِ أو القرابةِ أو المرض. أمُّه، أبوه، زوجته، أصدقاؤه، الممرضات، الأطباء، رفقاء عنبر الغسيل الكلويّ، الذين كان يقرأ موتَهم مرسوماً على صفحات عيونهم، فيترقب موته الخاص الوشيك. سلسلةٌ من المعاناة الوجودية والجسدية التي غمرتْ سنوات عمره القصير حتى لم تدع له إلا لحظاتٍ قليلةً من الفرح. لكنه، وحده الشاعر، ومَن سواه؟، القادرُ على استخراج الفانتازيا من الوجع، والمفارقةِ من محنة الجسد المنهوش. سيكون بوسع القارئ أن يصل إلى أعلى نقطة من التراجيديا عبر حكي يقترب من روح الملهاة والطرفة. إنها معاناةُ روحٍ حُرّةٍ طليقة، تخصُّ شاعراً، مع جسد مأزوم عليل مُقعد بالمرض. كان حريّاً بابن عربي أن يستثني الشعراءَ من مقولته:

- "الجسدُ قبّةُ الروح"، حيث روح الشاعر أكبر من أن تحدّها قبّةٌ أو خوان إذ هي دوماً مُحلّقة في العلا ولو اهترأ الجسد. سردٌ مطوّل لسلسال من المعانات. بدءاً بمعاناته مع اسمه اللقب "الدناصوري" الذي رافقه منذ مولده عام 1960، ودوماً ما يزعجه لصقهم حرف "ياء" دخيلة فيصير "الديناصوري" ما يضطر إلى تصحيحه في كلِّ ورقة وكل حوار ذاكراً اسم قريته "دناصور" بمحافظة كفر الشيخ. ومروراً بمعاناته أو الأحرى معاناة أمه معه لكي يقلع عن التدخين وينتظم في الصلاة كي تطمئن عليه قبل أن تموت، ثم يعود فيستدرك أن قصدها قبل أن "يموت هو"، فقد كانت الأم تعلم، مثلما الجميع، أن موته بات وشيكاً. هو الذي صارع منذ طفولته البعيدة فشلاً كلويّاً حادّاً لم تشفع معه عقاقير الطب ولا جلسات الغسيل الأسبوعية طوال حياته. وليس انتهاءً بأوجاع جسده الضئيل حين يصفون منه الدمَ كاملاً ليتم غسله وتنقيته بعيداً منه في غرفة مجاورة. يحكي أسامة محنة الجسد المريعة لحظة أن يغادر الدمُّ الجسدَ ليسافر وحيداً في رحلته عبر أنابيبَ شفافةٍ. يرى بعينيه دمَه مغترباً وحزيناً وقد استبدل بشرايينه جهازَ الغسيل الحديد العملاق الجامد. يحكي آلامه المُرّة تلك عبر حسٍّ كوميديّ أسود حتى لا تعرف فيما تقرأه هل تبكي من الألم أم تبتسم سخريةً من نفسك واحتراماً لجلال هذا الشاعر الذي حوّل العذابَ إلى عذوبة والقبحَ إلى جمال.

الموتُ يجمّل الناس ويغلّفهم بغلالة من النبالة تختفي وراءها عيوبهم. لكن أسامة الدناصوري الذي رحل في رابع أيام السنة الجديدة لم يكن في حاجة إلى الموت كي نراه جميلاً. كان بالحق أحد أجمل من في المشهد المصري، ليس شعراً فحسب، لكن إنسانًا أيضاً، وهي المعادلة التي تكاد تكون نادرة. ربما هو الشاعر الوحيد في جيله الثمانيني الملتبس الذي أجمع الجميعُ على محبته شعراً وروحاً. لم يتهافت ولم يصارع. لم تكن له خصومات مع أحد، ودرّب نفسه على محبة الجميع فنال محبة الجميع. "أنا تحت الشجرة/أقرأ، وأفكر في الحياة والموت/ أنا فيلسوف الشلّة/ المُقعَد الذي يحب الجميعَ/ ولا يكرهه أحد/ المُقعَد الذي أحبَّ مُقعدة/ تحت شجرة بعيدة/ تدور حول نفسها مهوّشةَ الشعر/ تتطاير من لسانها رغوة بيضاء/ ولا تراني". من ديوان "مثل ذئب أعمى" الصادر عام 1996.

في كتابه النثري الجديد "كلبي الهَرِم، كلبي الحبيب" يحكي فيما يشبه التندّر المُرّ قصة مرضه منذ اكتشافه الأول في الطفولة وصدمة الأب والأم. يحكي عن الأمل الذي كان يراوح بين المجيء والذهاب، عن الآلام التي كانت تحاصره وتعتصره فتظلم الدنيا فجأة، عن عنبر المستشفى والصداقات التي جمعته برفقاء الوجع وترقب الموت. يحكي حكاية سمعه الذي راح تخف قوته تدريجاً جراء المضادات الحيوية التي كان يتناولها لمعالجة التهابات جهازه البولي المتصدع بالبولينا. "يحدث أيضاً أن أطلب من أم أحمد‏:‏ زوجة البواب‏، أن تأتيني بالجرائد‏، أو علبة سجائر‏، وأنتظرها ساعات‏، ثم أفتح الباب غاضبا‏ً، ناوياً نهرها على التأخير‏، لأجد الجرائد على الدواسة أمام الباب‏.‏ فأفهم أنها دقت الجرس إلى أن ملّت‏، ثم نزلت بعد يأسها‏، قلت لها‏:‏ لا تدقي الجرس‏، فلن أسمعه‏، اطرقي الباب بيدك‏". ويحكي عن زملاء العنبر الذين كان يتخطّفهم الموت واحداً إثر واحد فيغيب واحدهم في كل جلسة غسيل جديدة. حتى إذا ما أوشكوا على الانتهاء وبات وحيداً أدركَ أن دوره قد أزف. "لماذا تشعر بالوحدة/ ولديك سرير بهذا الاتساع/ وعلى مرمى بصرك/ سماء واطئة من الجير/ تتجول فيها بعينيك السارحتين/ لتكتشف - ما شئت - من بورتريهات ناقصة/ لغرباء مسالمين/ وحروب صامتة لا تنتهي؟"

والشاعر من مواليد 1960 حصل على بكالوريوس علوم البحار من جامعة الإسكندرية عام 1984 وله، عدا ما سبق، ديوان "حراشف الجهم" "عين سارحة وعين مندهشة". وديوان بالعامية المصرية هو "على هيئة واحد شبهي" عام. رحل الشاعرُ الذي آلمتْه الحياةُ كثيراً فتعلّم أن يحبها كثيراً. مضى تاركاً خلف ظهره مخلاةً مملوءة بالتأوهات وبالقصائد. أطلقت الحياةُ أسرَه وتركته يمضي بعد أن اتقن محبتها. "يبدو أنّ الحياة جميلةٌ كما يقولون/حقاً... إنها لجديرة بأن تُعاش/ لقد غفرتُ لها كل ما مضى/ الحياةُ طيّبة/ لم تكن تقصدُ شيئاً سيّئاً/ كانت تمزح معي بالتأكيد/كانت تمزح - تلك الخبيثة - /وهي تخبّئكِ طوال الوقت خلف ظهرها/وتضحك ملءَ شدقيها ليأسي/والآن/وبعد أن تمكّن اليأسُ مني تماماً/ وأدرتُ لها ظهري/ إذا بها تلقي بكِ/ بكِ أنتِ/ في حجري"

Top