-->

أسامة الدناصوري: لا أعرف شكلا للكتابة غير الشعر

حاوره: عبد الحكيم حيدر

حينما فكرت أن أكتب عن هامشين، أحدهما صاخب والآخر هادئ، في إبداع الشباب، إذا بي أضع أسامة في ذلك الهامش الهادئ، رغم أنني ساعتها كنت أحس داخله بصخب آخر، صخب لا يُرى ولا يُحس، جلسنا جلسة هادئة في الأتيليه. تحدثنا، وبحذر كان يقدم كلمة ويؤخر كلمة، ثم يعود ويراجع الفقرة ثانية، وفي نهاية الحوار شدد على الصورة، قائلاً: غالية عليّ قوي والله يا عبد الحكيم. طمأنته على الصورة وحدث أن الموضوع كله بهامشيه الصاخب والهادئ لم ينشر، حتى مات أسامة، وإذا بي أقلب الأوراق، فأجد أسامة هادئًا كما هو في الصورة، وكأنه ينبهني أنه لا يزال على أهمية الصورة. كريمة هي الذكرى، حتى وإن كانت قليلة، والرحمة تجوز حتى على الأحياء. 

* ضرورة الشعر كما تحسها أنت؟

إنه سؤال جوهري، أنا مقل في الكتابة. فترات التوقف تستمر وتطول، وصلت مثلاً في فترة إلى ثلاث سنوات دون حرف، وذلك لأنني مؤمن بفكرة تكاد تكون مثالية، وهي أن الكتابة يجب أن يكون وراءها ضرورة ما تخص كل كاتب. لا تتولد هذه الضرورة نتيجة للإيمان بفكرة معينة أو حتى إيديولوجيا. لا فرق بين الكتابة بشكل عام والشعر بشكل خاص، وأنا لا أعرف أي شكل من أشكال الكتابة غير الشعر، ولكنني أتصور أن الضرورة التي لم أستطع التعبير عنها حتى الآن هي هي في الحالتين...

* لنتحدث عن فكرة الصراع في الشعر ما بين الأجيال؟

أنا بالقياس لتجربتي الخاصة بدأت الكتابة في وقت مفصلي قليلاً، يعني في بداية الثمانينيات وكانت تجربة السبعينيات في لحظات الذروة، وكان السبعينيون قد بدأوا في نشر إنتاجهم. حدث بعد ذلك تغير كيمياء الذائقة عندي وعند أبناء جيلي بسرعة شديدة، وأعتقد أن ذلك التسارع يخص ثقافتنا العربية، لأسباب لها علاقة بتغيرات سياسية واجتماعية سريعة وغير مستقرة حدثت في الخمسة عقود الأخيرة من القرن الماضي، فلا نستطيع أن نفصل حدوث المد القومي والفكرة الشمولية، ثم اندحارها وانكسارها، والدخول في مرحلة من التفسّح السياسي والاجتماعي، ثم الوصول إلى مرحلة من التوزيع والتميّع السياسي والثقافي، كل هذا حدث بشكل مركز وفي عمر جيل واحد من الأجيال، فلم تستقر قيم جمالية أو فنية أو ثقافية لفترات كافية يتم اختبارها بشكل أمين، ويتم اختبار علاقة المتلقي بها، أو حتى تشكيل متلقٍ يمكنه إقامة علاقة طبيعية معها. أنا لا أنكر أنني كنت مأخوذًا بتجريب السبعينيين في بداية علاقتي بالكتابة، وكان غموض كتاباتهم وتشابكها واغترابها يمثل لي حائطًا منيعًا، ولكن سرعان ما اكتشفت أنني كنت مخدوعًا لسذاجتي وضعف ثقتي في البسيط قريب المنال.

* بداية التمرد؟

لم يستمر الحال كثيرًا وبدأ الوجدان والعقل يتمردان على السبعينيين وعلى الأساتذة أدونيس وكتاب مجلة شعر وعفيفي مطر، واقتنعت أن بإمكاني وضع هذه القصيدة الممتدة من أدونيس إلى محمد عيد إبراهيم مرورًا بكل الأشباه بين قوسين، ولا أخفي أيضًا أن تعاطفي مع شعراء أسبق مثل صلاح عبد الصبور مثلاً، وأمل دنقل بالتحديد، وأحسست أنهما بالإضافة إلى محمد الماغوط هم من أستطيع أن أعتبرهم الجيل الذي يسبقني. فكرة الصراع موجودة بلا شك، ولكنه صراع شكلي، لم يؤثر بشكل عميق في تاريخ تطور الشعر كما أتصور، هناك أسئلة تم القفز عليها في فترة السبعينيات، ثم بدأت في الظهور في الفترة الأخيرة. من الممكن أن نذكر على سبيل المثال الرومانسية. في الستينيات كانت القصيدة تخجل من انتسابها للرومانسية وبالتالي كانت تتعمد الاستغراق في اللعب الشكلاني والتجريب، في حين أن الرومانسية كما أراها مرحلة أساسية وضرورية في حياة كل شاعر وفي حياة الشعر بشكل عام، تكاد تساوي الطفولة. قصيدة ما بعد السبعينيات استأنفت السؤال الرومانتيكي بلا خجل وهذا أعتقد أهم ما يميزها، ولكنها رومانسية جديدة ناضجة نوعًا ما، وهذا ما يفسر في رأيي ولع الشعراء بالنبش في ذواتهم وسيرهم الذاتية وعلاقاتهم المشتبكة بالأشياء، والإنسان بشكل عام، ولا أتصور أن هذا هو نهاية المطاف، ولكنها درجة أسياسية في سلم التطور.

* مشهد فني إذن كيف ترى حقيقة المشهد الشعري المصري الآن؟

يمر الشعر المصري الآن بلحظة غنية ومزدهرة. غنية لتعددها واحتوائها على أصوات مختلفة ومزدهرة لوجود مواهب عديدة وشعراء حقيقيين ضمن هذه الأصوات، في لحظات سابقة يختلف الأمر كثيرًا. على سبيل المثال. فترة الستينيات كانت الحياة الأدبية تضخ بعدد لا يحصى من الشعراء، كم مهول من الأسماء والدواوين. من بقي منهم عالقًا بالذاكرة؟ أنا شخصيًا أستثنى اسمين. أمل دنقل، وعفيفي مطر، أما الآن فأنا أستطيع أن أذكر لك عددًا كبيرًا من الشعراء الذين أحب قراءتهم وأنتظر جديدهم دائمًا مثلاً: أحمد طه، محمد صالح، محمد بدوي، أحمد يماني، محمد متولي، فاطمة قنديل، إيمان مرسال، هدى حسين، عماد أبو صالح، علاء خالد، مهاب نصر، ياسر عبد اللطيف، إبراهيم داوود، وآخرين...

* نقف الآن عند مجازفتك بعد ما يزيد على خمسة عشر عامًا من كتابتك للنص الشعري العامي، ثم بعد كل تلك السنوات، تجازف وتنشر ديوانًا لك أخيرًا، ما مبررات تلك المجازفة بعد كل تلك السنين لكتابتك لهذه النصوص، رغم أنني أرى أن هناك شعراء تجاوزوها جماليًا، خاصة وهي متماسة مع آخرين، وأقربهم الشاعر مجدي الجابري؟

المبررات عبثية. أنا أعلم جيدًا أن القصائد لا تمثلني الآن، باستثناء القصيدة الأخيرة وفاة مورد الجثث، ولكنني لم أكف لحظة عن ترديدها بيني وبين نفسي كنوع من الحنين إلى إنسان قديم كنت أعرفه جيدًا، وأعلم أيضًا أن شعرية القصائد تخفي لحظة تكاد تكون الآن سحيقة نظرًا لقانون التسارع الذي تحدثنا عنه منذ قليل. القصائد مؤرخة، وتنتمي إليّ على كل حال.

* هل ترتاح شعريًا ونفسيًا لفكرة الشلة، لأن الشلة تعبير بديل للدفء عن الاشتباك؟

أنا لا أصدق في ثورية فكرة الاشتباك، وأعتقد أنها في أغلب تجلياتها أتت مجرد حالات نزقة، أما الشلة، فإن كانت في بعدها الفني أو الشعري أو الجمالي فما أغباها. الكتابة يجب أن تنمو في مناخ أكثر حرية من هاتين الفكرتين. الاشتباك مورس طوال الوقت كفكرة مسبقة يتسلح بها الشاعر دون الضرورة التي تحدثنا عنها سابقًا: إن لم تشتبك مع كل من سبقك فأنت تقليدي ورجعي، لكن هذا لا ينفي أن هناك مستوى أكثر صدقًا وحقيقية من الاشتباك ويحدث بشكل تلقائي بين كل شاعر حقيقي وما حوله. أما الشلة، فأنا لا أعرفها إلا في مستواها الاجتماعي كصحبة. لي أصدقاء مقربون محبوبون. وهؤلاء هم شلتي. ليسوا بالضرورة شعراء، ولا حتى كتابًا.

.............

Top