-->

كلبه الهرم.. كلبه الحبيب!

البراء أشرف

تأمل كلمة "رواية" المطبوعة بـ"شياكة" على الغلاف، وستدرك فور أن تنتهي من القراءة أنك وقعت ضحية لمقلب اشترك فيه المؤلف والناشر وكل الذين ساعدوا في خروج هذا الكتاب إلى النور.. والسبب أنها ليست رواية بأي حال من الأحوال.. فهي أكثر بكثير من مجرد.. رواية!

اقرأ اسم "أسامة الدناصوري" على الغلاف في خانة "المؤلف"، فكر أنها ربما تكون غلطة مطبعية نسيت الياء بعد النون ليصبح "الدنياصوري"، أدخل على "جوجل" وأبحث عن الاسم، ستكتشف أنه صحيح، وأن صاحب الاسم أديب وشاعر مصري معاصر، كتب مجموعة من الدواوين وعمل في "أخبار الأدب"، وله علاقات طيبة بالأدباء والفنانين والطبقة المثقفة في مصر.. وتوفى منذ شهور.. بعد أن انتهى من كتابة روايته الوحيدة.. "كلبي الهرم كلبي الحبيب".. والتي خرجت إلى الـ"نور" بعد أن خرج كاتبها من الدنيا.. إلى "ظلام" القبر!

انتشر اسم "أسامة الدناصوري" على الانترنت بعد أن بدأ مجموعة من المدونين في نشر مقتطفات من كتابه الأخير، حصلوا عليها من المؤلف نفسه الذي تجمعه بهم صداقة أو زمالة، "هكذا أنا"، "أحمد العايدي".. وآخرون.. نقلوا ما كتبه أسامة ونشروه، وكنت أنا شخصيا واحد من هؤلاء الذين يسمعون ويقرأون اسمه للمرة الأولى.. إلا أنها لم تكن الأخيرة!

على المدونات ذاتها تلقيت خبر وفاة أسامة بدهشة، فالرجل الذي أكاد أعرف كتاباته وأعجب بها، ينسحب من الدنيا كلها دون أن يخبرنا عن نفسه المزيد، إلا أن هذا المزيد كان موجودا بالفعل، "تحت الطبع" في دار ميريت، والتي أفرجت عنه أخيرا في معرض القاهرة الماضي للكتاب.. ومن هناك حصلت على نسختي وبدأت القراءة..

...........

هل فكرت لحظة في يوم القيامة؟؟، هل تذكر تلك الرعشة التي كانت تمر بجسدك حين تفكر، هل تغمض عينيك في رحلة طويلة من اليقين والشك والتساؤلات.. إنك الآن أمام رواية تعطيك كل هذا مع كل سطر فيها وكل جملة.. ستقرأها وأنت تسأل نفسك.. هل مات كاتبها حقا في الشهر الأخير من عام 2006.. وهو الشهر الذي انتهى منذ أسابيع.. هل كانت هذه الرواية هي حكايات أسامة الأخيرة.. والوحيدة! لأنه لم يكتب روايات بعدها.. ولا قبلها!

يبني أسامة روايته أو "أوراقه" كما يسميها، في قالب سردي بديع، يكتب دون أن يتوقف، يلمس كل التفاصيل الصغيرة، ومع الصفحات الأولى تبدأ في السؤال.. أين الحكاية في كل هذا.. هذا مجرد شخص يحكي عن نفسه.. تابع القراءة لأن المكتوب يستحق قراءته.. أنت أمام شاعر يكتب روايته الأولى.. يكتبها بحس الشاعر.. الذي يختار كل جملة بعناية، دون أن يعزلها عما قبلها أو بعدها من كلام..

تدرك في منتصف الكتاب أن أسامة كانت يموت قبل أسابيع من بداية كتابته لهذا الكتاب، وأن نصيحة من صديق له كانت السبب في أن يبدأ، قال له : "أكتب يا أسامة حتى تجد شيء ما يجعك تتحدى الموت".. وقد كتب بالفعل بهذا الحس، وتحدى الموت وانتصر عليه لفترة..

يحكي عن جسده بلا خجل ولا خوف، إنها وصيته الأخيرة.. وفي الوصايا لا يخاف الإنسان من شيء قد يضره.. لأنه يعلم أن الوصايا لا تقرأ إلا بعد الوفاة!

أسامة.. الطفل الذي يولد بمرض في جسده يجعل عملية تبوله صعبة ومستحيله، يأخذه أبوه للدكتور.. وتبدأ رحلة طويلة من المرض والعلاج، يتأكد فيها المريض أن هذا قدره وأن عليه التعايش معه.. ويعيش بالفعل.. لكن المرض لا ينتهي، بل يتطور، ومع كل مرحلة جديدة يزداد الألم.. ويزداد يقين المريض أن معركته الأساسية في الحياة تدور داخله.. داخل جسده!

لكنه رغم ذلك يتحدث عن كل ما يشعر به ببساطة عادية، حتى عندما علم للمرة الأولى أنه مصاب بالفشل الكلوي، يقول أنه تلقى الخبر ببساطة، لأنه تعلم التعايش مع المرض، كما أنه كان يعلم أن ألم الفشل الكلوي سيجعل ألم انسداد مجرى البول ينتهي، وقد كان مستعد لتقبل الأول شرط أن ينتهي الثاني وهو ما حدث، إلا أنه أدرك أن الأمر ليس بهذه البساطة..

رحلة طويلة يأخذك فيها أسامة إلى معامل الغسيل الكلوي، وفي المستشفيات التي "يحبها"، وفي المحاليل والعيادات وصالة الانتظار بالمستوصف، كلها أماكن ذهب إليها أسامة وسجل ما حدث فيها، هو لم يدخلها كمريض فقط، بل وجد فيها أصدقاءه وزملاءه وحبيباته أيضا!

يحدثك عن كل التفاصيل، عن علاقته الآثمة بإحداهن، وعن قدرته الجنسية التي كان يتعاطي لها أدوية في أواخر أيامه، وعن كلبه الهرم كلبه الحبيب، وعن الحشيش والبانجو والـ"دماغ"، وعن نظرية الحشاشين، وعن صوت شخيره المزعج لزوجته، وعن ضعف سمعه، وعن وقفته العارية أمام زوجته يقول لها أنه من ساسه لراسه ممتلئ بالأمراض.. رغم أنه لا يعرف معنى كلمة "ساس"..

ويحدثك عن فلاتر "هايدلينا" التي كان يكرهها.. والتي أصبحت – بعد وفاته – أهم قضية فساد صحي في مصر، بعد أن أكتشفوا أنها تجلب الألم إلى المرضى.. وقد كان أسامة واحد منهم.. وقد سجل شهادته بنزاهة.. ميت!

في الصفحات الأخيرة يقول أنه يشعر بالموت يقترب بالفعل، يجلس معه في نفس الغرفة، ويراقبه، وينتظر أن ينتهي من أوراقه حتى يقترب أكثر وينهي المسألة، هنا قد لا تتمالك دموعك.. لكنك لن تتوقف عن القراءة لأي سبب!

يحدثك عن علاقته بـ"الله"، وأنه لا يصلي، وأن أمه كانت تخبره في كل مرة بأن : "نفسي أشوفك بتصلي قبل ما أموت"، لكنه يصحح لها المعلومة : "تقصدي أشوفك بتصلي قبل ما تموت".. هنا تدرك أنت أن أمه مثل أي أم مصرية، تردد الجملة ذاتها، إلا أن أمه كانت تعلم أن ابنها سيرحل قبلها.. وقد كان!

ستبكي بالتأكيد وأنت تقرأ، ستفعلها ولو كنت فظا غليظ القول، ستلمس جزء من روحك، وستذكر كلماته كلما دخلت مستشفى أو مررت بجنازة، أو سمعت خبر وفاة أحدهم، أو حتى أصبت بدور برد.. ستذكرها في كل مرة تدخل الحمام، وستفكر أن هذه العملية البسيطة كان أسامة يتعذب فيها.. ستحمد الله على نعمته.. وتسأله الرحمة لأسامة!

Top