-->

كلبي الحبيب.. انتصار الروح لهزائم البدن

محمد إسماعيل

«كلبي الحبيب.. كلبي الهرم» للمبدع المصري أسامة الدناصوري نص خاص بكل المعايير، فرغم أنه صنف تحت جنس الرواية إلا أنك تسطيع إدراجه ضمن السيرة الذاتية، أو اليوميات، أو حتى النصوص المفتوحة التي تتأبى على التصنيف، وتتمرد على واحدية اللون الأدبي.

وهو نص كتبه الدناصوري في ظرف خاص جداً، إذ إنه يحمل مرثية نثرية تعرض تفاصيل مؤلمة حزينة، نص يتعقب سيرة الألم، ويروي شراسة المرض الذي صادقه الكاتب كرهاً عبر رحلة حياته التي تستشعر حين قراءة الكتاب بأن صاحبها هو «أيوب الأدب» والمدهش أنه في سرده لا يلجأ إلى الصراخ ـ المبرر لو فعله ـ ولا إلى استدرار عاطفة عبر دموع كلماته، بل يقاوم وحش الألم، ويحاول ترويض ما لا يروض، ويحيله في بعض فصول كتابه إلى كائن محايد هش، بل واحة يراها أسامة «جنة الفشل الكلوي»، ذلك المرض الذي أنقذه من أمراض أخرى أشد ضراوة.

يسرد الكاتب كل ما له صلة بمرضه، وينسج من خيوط يومياته أجمل الحكايا وأشقاها في آن، ويتتبع حياته الدرامية ـ لمن يقرأها لا لمن عاشها ـ لكي يدرك كنه معاناته من دون عقد، أو سقوط في جب الشكاية.

يومية أولى

يستهل أسامة نصه بيومية مؤرخة بـ02/4/2006 الساعة الواحدة والنصف صباحاً، يحكي فيها عن توقه للإبداع الذي جفاه منذ ثلاث سنوات، ولقائه أحد أصدقائه، وعودته إلى بيته في فصل ثانٍ لكن في تفاصيل الليلة ذاتها، وفي فصل ثالث يرى وجهاً يعرف بعض ملامحه وهو وجه الموت ممثلاً في إحدى نوبات مرضه، فيفكر في اللحظة ذاتها فمن سيأخذ عزاءه من أصدقائه، ويعلن: لا لن أموت .

سأقاوم بكل ما أستطيع.. ويسرد كل ما يتعلق بتلك الليلة التي امتدت على مدار ثلاثة فصول، كأن الألم يشظي الليلة إلى ليالٍ، ويجعل اللحظات سنوات يريد من يعيشها أن يعانق دنو الرحلة، ويصل إلى نهاية المطاف.

البدايات

 ويتعرض الدناصوري في أحد الفصول لبدايته مع المرض الذي صحبه وهو ابن الثانية عشرة من العمر، كان ذلك في أكتوبر .1973 مفارقة غريبة.. شعب يحتفي بنصره، وصبي اسمه أسامة الدناصوري يستعد لهزائم جسده من قبل جيش لا يراه ولا حيلة له به، وتبدأ معاناة الصبي بمرض معقد في المسالك البولية، ويطوف به أبوه على الأطباء من كفر الشيخ إلى القاهرة إلى الإسكندرية.

ويتذكر الكاتب اللحظات الأولى التي تعرف فيها إلى المستشفيات ذات الردهات والعنابر الطويلة، العالم الأبيض كما الأكفان، ويصف أدق تفاصيل عالمه، ويبوح ـ إلى أقصى حد ـ بتداعيات مرضه، وبالضعف الذي يراه الكثيرون عيباً لا بد من أن يستر، لكن أسامة يعري ذاته، يضع جسده العليل بكل ما فيه في فصول كتابه، وكما يسرد اللحظات المقبضة يسرد اللحظات المبهجة: قصة حبه الأول الصامت، وكذا حبه الأول الناطق، وفي عالم المستشفى تكون الحبيبة الأولى ممرضة، وآخر الصديقات أيضاً ممرضة، ويروي الكاتب عن أصدقاء الأسرة البيضاء، وظروفهم وحكايات كل منهم.

زائر جديد

عالم ممتد من 1973 إلى 5/2/1995 ذلك التاريخ المحفور في ذاكرة كاتبنا الذي يقول عنه: «لن أنسى ذلك التاريخ.. كان حداً فاصلاً بين عهدين، انتهت علاقتي بأطباء المسالك التي استمرت 22 عاماً لتبدأ علاقتي الجديدة بأطباء عالم الفشل الكلوي»، ويحكي أيامه الأولى مع زائره الجديد، ومحاولاته وأقاربه زرع كلى..

وللأسف تفشل المحاولات، ويرضى من الحياة بالغسيل الكلوي، ويفصل أسامة في كتابه تللك العمليــــة، والغريب أنه يكتبها بعفوية وطزاجة قد لا تستطيع أنت كمتلقٍ قراءتها، وتحاول أن تتماسك كي لا يسقط الكتاب من بين يديك، وتجهد نفسك أنت القارئ المتخيل لذلك العالم المقبض الذي يصوره الكاتب، وتتساءل: كيف عاشه أسامة مرة واقعياً، وأخرى إبداعياً حين تجاسر وكتبه بكل دقائقه، وعبر عنه بمداد دم الحقيقة كي يخلدها ويدنيها، وليثبت أن تجربة المرض نار هادئة تنضجنا ولا تحرقنا، ولا تستطيع إحالتنا إلى رماد بشري.

لا سيما حينما نقبض على وعي حقيقي أمسك به الدناصوري الذي أتم فصول كتابه في 21/8/2006 وودع الحياة في 4/1/2007 وترك الجسد المتداعي ليستريح من الأجهزة التي لم تترك حيزاً سليماً فيه، وخلد روحه في أربعة دواوين شعرية، وكتابه النثري الذي عرضنا له، والذي كتب فيه الدناصوري مرثية لجسده، وخلوداً متجدداً لروحه وقلمه. 

Top