أسامة الديناصوري مريض. ومريض بماذا ؟ .بالفشل الكلوي. يا الله .. هذا السبب الذي عرفته من خلال اليوميات التي نشر جزءاً منها في أخبار الأدب المصرية بعنوان "كلبي الهرم، كلبي الحبيب"، والذي نشر كاملا ً في كتاب من إصدار دار ميريت بعنوان "يوميات العادي".
هذا السبب جعلني أفرح لأنني لم أقابله في الرحلتين اللتين ذهبت فيهما إلى مصر.كنت سأتألم وحدي الآن في مدينتي الحدودية البعيدة على صديق يتألم وحده بذلك المرض السيئ السمعة، بذلك المرض غير النبيل.
"الفشل الكلوي ليس مرضا ً. إنه أنا. أنا العادي جدا ً. فقط عندما أكون في بيتي، تكون كليتاي في مكان آخر".
هكذا يقول أسامة في اليوميات.كأنه يقول ذلك على سبيل المزاح، لو كنا لا نعرف أنها الحقيقة بالفعل، أو على سبيل المفارقة، أو أنه يحاول أن يستدرج زوجته "سهير التي تصلي كثيراً" إلى الانتباه قليلا ً إلى أنه عاد ليكتب.صحيح أنه لا ينام، لكنه يكتب على أية حال.
يحاول أسامة أن يستدرج سهير إلى العطف قليلا ً لأنها تبدو، طوال اليوميات، كامرأة من الذهب الخالص القوي، وبقلب ٍ من الذكريات التي تجمع ولا تفرق.امرأة تدعس على قلبها، أمام حبيبها المريض، كي لا تنهار كخزانة مملوءة بالدعاء والحياة.
أنا مريض بالفشل الكلوي. يقول ذلك أسامة ولا يعرف بأنني أنا الذي أعرف ماذا يعني الفشل الكلوي. وماذا يعني غسيل الكلية، وكيف يخسر الجسم طبقاته الدهنية أولا ً ثم اللحمية، في الوقت نفسه الذي تخسر فيه الذاكرة طبقاتها القديمة لتخليها لطبقات ذكريات المرض المقيم، كي يبقى العظم الهش بارزا ً بهشاشة باهظة، وكي تبقى سهير وحيدة، بالإضافة للرغبة في الحياة، في القسم الباقي من الذاكرة.ذلك القسم الذي، عادة عند مريض الفشل الكلوي، لا يكون في الدماغ وإنما في القلب.
أعرف كيف يكتسب الجلد رائحة النشادر المخفف، وجرعات الكلس التي تحاول أن تبني سداً في وجه فقدان الذاكرة.كما أعرف كيف تخرج تلك اللزوجة الصفراء من بين الأصابع التي تجعل أحدنا يشعر بالخوف، وربما بالحرج والألم، من الموت وهويصافح مريض الفشل الكلوي. وأعرف مجموعة الكوابيس التي تتدفق خلال فترة النوم المسروقة ولو كانت لدقيقة واحدة. لذلك يبدو سهلا ً أن نعرف ما معنى فقدان النوم والشهية، بخاصة إذا عرفنا أن كل ما نشتهيه ممنوع على ذلك المريض من لحوم ودهون وملح وفوسفور وتدخين وكحول ..
أعرف وجع المفاصل، وهشاشة العظام، وبخاصة وجع الإبر التي يؤلفها المرض أسفل القدمين والظهر.
ما نكتشفه في اليوميات، وهذا مؤلم بشكل ٍ أو بآخر، أن الفشل الكلوي لا يمنع مريضه من كتابة الشعر والرواية. ربما جاءت صورة فقدان طبقات من الذاكرة، عند أسامة، ليس بالنسيان المحض. بل بالنسيان عن طريق كتابة الشعر واليوميات.وهذا جديد ومؤلم بأن ينسى أحدنا بالكتابة وليس بالفقدان.
"أنا أحب التدخين، كما أحببت ُ أشياء كثيرة".
"توجد عندنا بقرة نصف مدبوغة تنام على الباركيه في الصالة. بقرة كاملة، بشعرها الكستنائي، وأطرافها المجثوثة".
أسامة الديناصوري شاعر مقل ومنزوٍ عن الأماكن المزدحمة ولكنه يحتفظ بلقبه كشاعر وإنسان كلما سألت أحد الكتاب عنه في مصر.ثلاثة دواوين فقط أصدرها خلال عمره الذي لم يتجاوز السادسة والأربعين "مثل ذئب أعمى" و"حراشف الجهل، وعين سارحة وعين مندهشة"، وأعتقد أن له مجموعة شعرية باللهجة العامية بعنوان "على هيئة واحد شبهي".
يكتب أسامة، هوالذي توقف عن كتابة الشعر منذ ثلاث سنوات، هذه اليوميات بعين الذئب، ولكن بعين الذئب الجريح.إذ نستطيع أن نفهم عمق الجرح عندما يكتب أحدهم، بدقة وعناية فائقة وبخفة دم، عن يوميات المرض ودقائقه وجلسات غسيل الكلية، ثلاث مرات في الشهر على الأقل ولمدة اثني عشر عاما ً، وكيف يستلقي بجانب آلة غسيل الكلية بينما يروح دمه، عن طريق الخراطيم والفلاتر، يدور دورة كاملة خارج الجسد ليعود إليه خاليا ً من البولة والشوائب ومليئا ً بألم الاستلقاء طوال أربع ساعات دون أمل في زرع كلية جديدة قد تمنحه حياة جديدة ولو بعضو غريب.
"لا بد أن أكون مرتاحا ً ومطمئنا ً عندما أنام ودمي في الخارج، يقوم بجولته المعتادة عبر الخراطيم والفلاتر ".
نعم مريض الكلية يجد فرصة للنوم عند غسيل كليته.فرصة للنوم بعد أن تتسلل البرودة للجسم، بمجرد مغادرة الدم منه، طاردة الكوابيس خارجه.ينام كأنه يفضل النوم على الساعات الأربع من الغسيل والألم الذي تتدبره الإبر في القثطرة والوريد.
في مقطع "عرق" نستطيع أن نفهم معنى النوم في يوميات أسامة من دون غسيل: "نمت ُ نصف ساعة، من الواحدة والنصف وحتى الثانية، ثم صحوت، كالعادة في أيام الصيف، لأبدل ملابسي. لا أستطيع النوم بشكل متصل أكثر من نصف ساعة.أصحو من أعمق الآبار شاعرا ً ببرودة حقيقية لأجد ملابسي كلها مشبعة بالعرق، أخلعها وأرتدي طقماً جافا ً من الدولاب، ثم أعود للنوم، بعد أن أنشر القطع المبتلة حتى تجف ... بعد أن يتراكم أربعة أو خمسة غيارات يكون الطاقم الأول قد جف، فأبدل بينها حتى الصباح."..
بالإضافة لكتابة ذكريات أسامة تخرج ذكريات قراءاته للآخرين.صحيح أنه لم يشر لذلك ولكن نجد ذلك على أية حال، كأن نجد هذا المقطع: "ويدي التي تنام بجوارها. بل التي تسهر بجوارها كلعبة شريرة" الذي يذكرنا بمقطع للشاعر الفلسطيني سامر أبو هواش. وكذلك مقطع آخر يذكرنا بقصيدة للشاعر عباس بيضون، من كتابه "الوقت بجرعات كبيرة" "وأنا جالس مكاني على الكنبة أستطيع أن أمد ّ بصري في خط مستقيم فيعبر أولا ً باب غرفتي، ثم عرض الصالة، ثم فراغا ً في الحائط بحجم باب يصب في الطرقة، ثم أخيرا ً حائط الحمام المواجه حيث مفتاح النور".
ومع ذلك فإنها يوميات مدهشة.يوميات دقيقة، يكتبها أسامة على شكل دقائق وساعات من يوم ما وليس على شكل أيام فقط، تذهب إلى المؤلم بيدين مرفوعتين ورقيقتين.
يوميات حزينة ولكنها لا تتخلى عن شرط المتعة والدقة وهو يقدم، باسترجاع لذيذ، بدايات ارتباطه مع مشكلات الكليتين منذ عام 1973 وحتى الآن.يتحدث عن شخصيات وحدات الغسيل التي عاش فيها، ربما، أكثر من حياته خارجها.يتحدث عن المرضى والممرضين والأطباء والصداقات التي كان يصنعها من أجل الحصول على الحشيش ... يتحدث عن أمه التي تريد منه أن يصلي كي لا يتعذب في آخرته كما تعذب في دنياه ... يتحدث عن فشل المطابقات مع الأقارب والأصدقاء كي يحظى بعملية زرع كلية ستبعد عنه، لو نجحت، جلسات غسيل الكلية، ولكنها، أي العملية، ستجعله يشرب اثنتا عشرة حبة دواء في اليوم كي لا يرفض جسمه الكلية الغريبة.
كنت أريد أن أقول للصديق أسامة بأن لا يبق مريضا ً مداوما ً بهذا المرض السيئ السمعة. لكنه مات.لأنني أنا الذي أعرف.لأنني أنا الذي كنت ُ أجلس، طوال ساعات وشهور الغسيل، بجانب أخي "محمود" الذي كان مريضا ً بالفشل الكلوي، وهو ممدد بجانب آلة غسيل الكلية. كنت أرى دمه كاملا ً وهو يخرج من وريده، وربما شريانه، في اليد اليسرى ليدور في خراطيم بيضاء طويلة، ليعود مغسولا ً إلى وريد يده اليمنى.كان ينام هناك من دون كوابيس ولكن بشخير مرتفع.كان يبتسم خلال نومه. وكثيرا ً ما كان يمد يده الصفراء واللزجة، فجأة، ليمسك بيدي الدامعة بجانبه ويشد عليها وكأنه يمسك ذيل الحياة.