-->

كلب الدناصورى الحبيب.. عندما يصادق شاعر الموت وطرقات المستشفيات

فى الوسط الثقافى يوجد أشخاص يتمتعون بحضور طيب، وطلة جميلة، لا يختلف على خفة روحهم وجمالهم الإنسانى اثنان، ما يعفيهم من ألسنة تشبه السياط فى جلسات النميمة، ولا تسمع عنهم إلا ثناء، وغالبا يكون لهؤلاء من جمال الموهبة ما لا يقل عن "حلاوة" الروح

من هؤلاء الشاعر الراحل "أسامة الدناصورى"، والذى كانت له مع مرض الفشل الكلوى تجربة مريرة انتهت بوفاته فى يناير2007، وقد أصدرت دار ميريت أعماله الكاملة مؤخرا فى رداء جديد صممه الفنان أحمد اللباد.

لتضم دواوينه الشعرية المنشورة بجانب بعض النصوص النثرية التى لم تنشر، وروايته الوحيدة " كلبىَ الهَرِم.. كلبى الحبيب"، والتى لم يرها منشورة، حيث صدرت طبعتها الأولى بعد وفاته بأيام ونفدت خلال ثلاثة أشهر.

الرواية سيرة أسامة الذاتية، أم نقول مرثيته الذاتية، نعم هى مرثية، تعرف هذا بمجرد النظر لبعض عناوين الفصول، كأن يسأل "من سيأخذ عزائى؟"

عند قراءة الرواية، تتأكد لنا مقولته فى جلسة هادئة جمعته بصديقه عبدالحكيم حيدر "لا أعرف شكلا للكتابة إلا الشعر"، فالرواية حقا مكتوبة بلغة شاعر، حكاء، استطاع أن يجعلنا نرى من ثقب صغير عالما شديد الاتساع، مأساة يعيشها مرضى الفشل الكلوى بمصر، مرارة من جميع الجهات، سواء كانت ناتجة عن آلام المرض، أو تلك التى تتسبب فيها "بهدلة" المستشفيات الحكومية، ووحدات الغسيل، التى يضطر المريض لزيارتها بشكل دورى، مجتمع كامل يعيش فى هذه المنطقة، والمرض هو الرابط الوحيد بين مواطنيه، يتأثرون ببعضهم البعض، عندما تتدهور حالة أحدهم تكون نذير شؤم على الآخرين، وعندما تتقدم يرى على الفور بهجة الأمل فى عيون أقرانه، مواطنو هذا المجتمع ليسوا فقط من المرضى، بل أيضا من الأطباء، والممرضات، والزوار، شبكة عجيبة من العلاقات الإنسانية، والتى غالبا لا تكتمل، لأنه كما قلنا، الرابط الوحيد بينهم، هو المرض.. مرض لا ينجو منه الكثيرون.

كل هذه المآسى صورها أسامة بلغة لا تحمل لهجة العديد، أو الشكوى، ولكنه فقط كان يحكى بأريحية عن علاقته بالأشخاص، والعقاقير، وأجهزة الغسيل، يقول "أحببت قسم المسالك البولية بالدور الخامس كبيت لى.

بل لقد نشأت علاقة قوية، ربطتنى إلى الآن بجو المستشفيات بشكل عام، عندما أسير فى الطرقات الطويلة، ذات السيراميك الأبيض، والحوائط البيضاء، أحس للتو بأنى أسير فى أماكنى الأليفة، وظللت إلى الآن أسيرا لرائحة المطهرات القوية، التى تنبعث من الذاكرة لتملأ خياشيمى، عندما أجد نفسى فى أماكن تشبه المستشفى"، حتى وهو يصف علاقاته العاطفية.

والتى كانت القسطرة المتخللة لجسده تعكر صفوها، كان يسخر، لم يكن يعتبر نفسه مريضا إلا عندما يصاب بالبرد، أو بألم الأسنان، وقتها كان يعلن بجلبة كبيرة عن علته كان يرى أن الفشل الكلوى ليس مرضا، بل إن هذه هى الحياة، ما يجعلك وأنت تقرأ تتذكر كلمات أمل دنقل:

قلبى صغير كفستقة الحزن

لكنه فى الموازين

أثقل من كفة الموت.

هل هى مصادفة؟ نعم أمل دنقل، أهم شعراء الستينيات، الذى توفى فى الأربعينيات من العمر بعد رحلة مرض، رثى نفسه خلالها مرات عديدة، وبعدما مات، لم يتوقف رفاقه، وزوجته، ومحبوه عن لم شمل أعماله، مثلما حدث مع أسامة، فرفاقه، وزوجته هم الذين جمعوا صفحات هذا الكتاب، الذى ضم دواوينه الأربعة "حراشف الجهم"، "مثل ذئب أعمى"، "عين سارحة وعين مندهشة"، "على هيئة واحد شبهى"، بجانب بعض النصوص النثرية والشعرية غير المنشورة، وبعض الحوارات التى أجريت معه.

لم يكن أسامة هو الوحيد الذى ينتظر موته بين الحين والآخر، كانت أمه هى الأخرى تنتظر، وكانت دائما تحثه على أداء الفرائض كى يطمئن قلبها، كانت تسأله "إنت مؤمن بربنا وبالإسلام؟"، ولكنها لم تكن لتصارحه بحقيقة مشاعرها، كانت تبرر كلامها دائما بأنها تريد الإطمئنان عليه قبل موتها، ولكنه كان يعرف أن هذه ليست الحقيقة، وكان أحيانا يقوم للوضوء والصلاة أمامها كى يريحها، ولكن هى الأخرى كانت بالذكاء الكافى، فلم تكن تصدقه.

لا ينافس هذا الكتاب فى صدق وحلاوة كلماته، إلا الكلمة المكتوبة على غلافه الخلفى، والتى تعبر عن فهم عميق للكتاب ومؤلفه، خطها الناقد والشاعر الدكتور محمد بدوى، يقول: "يختصر الكتاب بعضا من الحضور الخفيف الرشيق الدافئ، المشاغب والمفعم بالتوتر، الحضور الودود، المتألم المتهكم، والمعاتب، المعانق، لشخص عشق الحياة، مثل ذئب أعمى، رغم خيانة جسده، واتخذ الشعر طريقا لكسب قلوب الأصدقاء، ومواجهة النقص المرعب، الذى يتخلل وجودنا الهش".

كان أصدقاء أسامة يتوقعون موته بين لحظة وأخرى، ولكنه كان دائما يحاول تخفيف هذا العبء عنهم، وفى مناقشة بينه وبين صديقه الكاتب "حمدى أبو جليل" قال له الأخير "بص يا أسامة بعد الكتاب ده تقدر تعمل اللى انت عايزه بقى، فرد أسامة: "تقصد يعنى، أموت دلوقتى وأنا مرتاح؟ أنا بقى قاعدلك يا حمدى يا أبوجليل، والغى فكرة موتى دى من حسبانك نهائيا"، ولكن حمدى كان على حق! وبعد أشهر قليلة من هذه المناقشة، مات أسامة الدناصورى.

.......

نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 09 - 2009

Top