محمد المخزنجي
هناك كتب تفاجئك باستثنائيتها ، باستحالة تكرارها ، وباستحالة الحصول علي طزاجتها المدهشة مرة أخري ، لأنها ببساطة تجربة كل الحياة بالنسبة لكاتبها ، وكتاب كلبي الهرم .. كلبي الحبيب ، كان كذلك ، كتاب وداعي لعالم بحاله يكتنز داخله كل العوالم ، علي اعتبار أن الإنسان هو كون صغير في منظومة الكون الواسع ، كوكب أو نجم بأفوله لا تنتهي مفردة واحدة من تكوين كبير ، بل يختفي هذا التكوين الكبير نفسه من خلال اختفاء مفردة تعكس بحياتها صورته ، وحيث صورته لا تعود هي ذاتها بعد اختفاء هذه المفردة . هذا كلام لا مبالغة فيه لأنه محض شعور تلبسني إثر القراءة ، أما الملموس فهو صارخ أيضا لكن يمكن إقامة البراهان علي فرادته بيسر . فهذا الكتاب بفعله الإنقلابي في وجودي القارئ يشبه ضربة علي رأس لم يدرك أنه كان فاقدا لوعي ما ، إلا باستعادة هذا الوعي عبر الضربة التي تلقاها ، وهي ضربة من جمال وشجن واكتشاف يستحيل نسيانه . فالرحلة التي قادنا إليها أسامه الديناصوري كانت مفاجئة تماما ، رحلة كاشفة لوجود عالم آخر يكتنف عالمنا الذي نحيا مستسلمين لوهم كامل معرفته ، فهناك شعب آخر يعيش في تيار شعبنا ، دنيا مختلفة في كنف دنيانا ، هذه الدروب المجهولة كأنها أنفاق أو سراديب لا نراها ولا نعلم بوجودها لوحدات غسيل الكلي المبثوثة هنا وهناك في ثنايا هذه المدينة ، عيونها التي لا تغفو ، مرتادوها الذين ينسج التهديد المشترك بالموت فيما بينهم وشائج من حياة بالغة الرهافة ومفرطة الجمال برغم فزعة الدماء التي تغادر الاجساد في رحلة لا معقولة داخل الماكينات . عذوبة وأسي الوداعات التي تضاهي ألق وبهجة اللقاءات . جسارة الحياة التي تنتظر الموت بلا ولولة ولا عويل . ماهذا ؟ من أين كل هذه الروعة للكائن البشري الذي يحب ويصادق ويعانق ويدخن ويضحك ولا يكف عن ابتكار الاحتيالات الظريفة والنكتة ووسائل التكيف المعجزة بينماهو منذور لموت حتمي .. موت بهذه اليوريميا البيلة المتراكمة في دمه بفعل الفشل الكلوي عندما تنسد بالتليف والجلطات كل الوصلات المحتملة لغسل دمه ، وتستحيل عمليات ازدراع الكلي مع رقة الحال ومنافسات تجارة الأعضاء واختلال المنظومة الطبية في بؤس كل هذا الزحام البائس الذي نعيشه . إنها أغنية مذهلة للحياة وهي في قبضة الموت . أغنية تجعلك تحب الحياة وتحب البشر وتقول لنفسك مثلما قلت لنفسي كيف لم أعرف هذا العالم الموجود في عالمنا بهذا الغني ، لماذا أفلتت مني منحة معرفة كاتب جميل إلي هذا الحد . وليس الكاتب فقط ، بل الكتابة بالتأكيد ، فثمة نثر جميل ينبعث جماله من دقة المفردة وصفاء الجملة . وثمة صياغة للحوارات شديدة الألفة وبرسم مدهش في تحويل الشفاهي إلي كتابي لعل مرجعه خبرة كتابة قصيدة العامية . إنها كتابة جميلة بحق، وهنا تقفز مسألة التصنيف التي هي من شأننا وليست من شأن هذا الكتاب الجميل . فإذا كانت هناك مشاهد تم رسمها بكل هذه الألوان الأدبية الصافية ، الأخاذة والمقنعة ، وبناء متماسك لابد أنه خضع لعمليات حذف وإضافة يحكمها إحساس خبير بتوازن الإيقاع في العمل الأدبي . أي أن هناك تحقيقا لشرط الرواية في أحد تعريفاتها كونها فن مشهد وبناء . إضافة لتحقق الشرط البديهي للرواية كفن توظيف التفاصيل الصغيرة ؟ ماذا يتبقي ليكون هذا الكتاب رواية ، ورواية جديدة ملفتة ؟ مسألة الشخصية ؟ وهل هناك كتاب مقدس لرسم الشخصيات في الأدب ؟ إن الكتاب يفيض فعليا برسم لشخصيات عديدة بضربات رشيقة أشبه بعمل الانطباعيين ، وهناك استكناه عميق للشخصيات من خلال رصد حراكهم داخل المشاهد ، خاصة شخصية الراوي . وفي النهاية هذا ليس كتاب سيرة ، اللهم إلا إذا كانت سيرة فنية ، وهل الرواية ، أي رواية ، إلا سير ة مموهة بطريقة ما سواء لراويها أو المروي عنه . وسواء اعتمد النقاد هذا الكتاب البديع كرواية أو لا ، فإنه يظل كتابا استثنائيا يأخذنا في رحلة آسرة لعالم بين جوانحنا ، وأحباء لصق قلوبنا ، نكاد لا نراهم ، أو أننا لم نرهم بالجلاء والروعة التي قادنا إليها أسامة الديناصوري . لكم أشعر بالألم لافتقاده ، بينما لم يتح لي معرفته عن قرب من قبل !