-->

أيام البولو الخضراء

حمدي أبو جليل

كلما أري سيارة " بولو "خضراء أقول يا أسامة، لا أقصد طبعا انني اجري وراها كالعبيط ، وإنما أقصد أنني أقف وأتوه وأحيانا انفجر في الضحك علي مشاويرنا بالبولو الخضراء . كان اسامه يوصلني بها حتي الطالبية ويتركني أواصل المشوار فاجتاز شارع الهرم رايح جي وأقفز فوق الحاجز الحديد، مرة وقعت ، أي والله، انطرحت علي وجهي ، وأركب عربية بالنفر حتي أدغال الطالبية، وظللنا سنوات نتعامل مع بعضنا علي أنها توصيلة محترمة كريمة تستوجب أن أظل أشكر اسامة عليها والوّح له ممتنا حتي يتواري في شارع فيصل حتي ركب معنا صديق حصيف يجاورني في نفس البيت وأفهمني خطأي " يا راجل دا الميكروباص اريح ، دي توصيلة دي ؟ " ولكني ظللت سنوات أتحين الفرصة لتوصيله بالبولو الخضراء، وظللت سنوات أموت في الانحناء له شكرا وامتنانا واعتزازا حتي يتواري في شارع فيصل.

البولو الخضراء تعتبر نقلة في حياة الشاعر المجدد الفريد من نوعه اسامة الدناصوري، قبلها كانت معه " سيات " تعاني من شلل رعاش يشتد عادة في المطالع، وكان اسامة يعتز بها، اقصد البولو الخضراء ، ويحس طوال الوقت انه لا يعتني بها العناية اللائقة ، وكنا نستقلها عادة في الليل، ويا حبذا لو الحادية عشرة وياحبذا لو كنا مبسوطين تماما حيث المزاج الطيب والبولو الخضراء وام كلثوم علي محطة الاغاني، ولو كانت اغنية ام كلثوم مش تمام يشغل اسامة واحدا من مقتنياته التي يعتز بها، أحمد البرين مثلا أوعبدالمطلب او شريط نادر لفايزة أحمد ظل يفخر به طوال حياته.

واحيانا كان اسامة يتكلم، وعادة ما كان يحكي مفارقات ومواقف تجعلنا ننفجر في الضحك ، وفي كل الاحوال كان يقود بثقة واتزان وأدب جم ، ولكن لو أحس بأي استهانة أو استهتار يمكن ان يدهس دهسا، ومرة دهس فعلا ، كان يسير في الشارع ووقع في واحدة من المصائب الرائجة هذه الايام، فجأة وهو ماشي في امان الله وجد أمامه في عرض الطريق شابا يتقصع، وظل يزمّر له وهو ولا هنا فتغاظ اسامة ولم يتمالك نفسه ودفس علي البنزين في ضهره مباشرة، والغريب يا أخي ان الشاب المتقصع انكفأ علي الارض وطار جري.

المرة الوحيدة التي لم نتكلم ولم نستمع للأغاني في البولو الخضراء كانت الليلة التي بدأ فيها كتابه الأخير " كلبي الهرم كلبي الحبيب " ، الكتاب الذي هب من الموت لكي يكتبه وبمجرد ان كتبه رحل في مثل هذه الايام قبل ثلاث سنوات.

نزلنا من دار "ميريت" في الوقت المثالي ، الحادية عشرة بالضبط، وفي حالة عجيبة من البهجة والانشراح والرضا عن النفس ، وكنت أتمايل طربا مع أم كلثوم " من يوم مسافر حبيبي وانا بداوي جروحي " وفجأة امتدت يد اسامة وأطفات الراديو، فنظرت اليه فوجدته ساهما أو قل تائها فسكت ، وأحسست انه استراح لصمتي، وبدا انه مخطوف او مستلب لشيء ما، نعم يقود البولو بكل ثقة واتزان ، ولكن يبدو انه ينظر لهوة عميقة دون خوف وانما برهبة وفرح، وفجأة قال " انا عايز اتكلم، حاسس بالكلام بيدوّم في صدري " وتحسس صدره ، ولا اعرف لماذا تخيلت كلامه علي هيئة أشياء أو قل مناطق مضلعة بها سهول ومرتفعات واغوار سحيقة " أقولك تعالي نقعد علي قهوة ف فيصل "، ووجدنا ركنة مريحة وقعدنا علي كرسيين بعيدا عن الناس علي حافة الشارع ، وبدأ اسامة يحكي جانبا من الأيام العظيمة البلهاء، الايام التي عشتها بعمق شديد، وبمتعة غير عادية، كنت أسعد الناس علي وجه الارض، أنا الآن أعلم أني كنت أتفه الناس علي وجه الارض، ولكن هذه المعرفة لا تفيدني في شيء.. ليتها تعود هذه الأيام. 

Top