-->

"أنا لا أحب العمل"

(مقتطف من مسوّدة)

أنا لا أحب العمل، يجب أن أعترف بذلك

ولم أجد نفسي متحمسًا لمقولة: (العمل شرف، العمل   واجب، العمل عبادة) التي حفّظونا إياها في المدرسة

وفي رأيي أن الله خلق الإنسان لا ليعمل، بل ليستريح.

وردًا على من سيسأل: مِمَّ سيستريح الإنسان؟ أقول

إنما خلق الله الإنسان ليستريح من المعاناة التي عاناها في حيوات سابقة. وإن كانت حيواته السابقة خالية من المعاناة، فليسترح إذن من تلك التي سيعانيها في حيوات لاحقة. ما بالك وأنا أعاني... في حياتي الآنية هذه. هذا الكم من المعاناة؟ ألا يحق لي أن أستريح من العمل وأنا مرتاح الضمير؟

ورغم ذلك فقد ذقت العمل وجربته مرات عديدة في حياتي.

أرسل لي أبي دعوة من السعودية لزيارته في أحد الأصياف.

كنت في الجامعة. كان الغرض من الزيارة هو أن أتمكن من الحج معهم ذلك العام.

بعد مضي عدة أيام تعرفت فيها على الحرم النبوي وعلى الأماكن المميزة والمزارات والحدائق في المدينة ورؤية أصدقاء أبي جميعًا تملكني شعور قوي بالضجر والرغبة في العودة. ولأن أبي كان دائمًا لا يولي اهتمامًا كبيرًا لقدرتي على عمل أي شيء وبالمقابل يولي ثقة كبيرة في أخي علاء، ويرى أنه نشيط وحريص ومستيقظ بينما أنا كسول ودائم السرحان والهرب من أي التزام. وجدت أنها فرصتي لأثبت له العكس ولأجبره على تغيير رأيه فيّ.

فأخذت أطلب بإلحاح أن يجد لي عملاً أيّ عمل. كان أبي مغتبطًا بينما أمي تحاول أن تثنيني عن جنوني هذا. خوفًا عليّ من المشقة.

بحث أبي ولم يجد وأخيرًا سأل عم أنور المقاول فقال:

- ابعتهولي بكره الساعة 7 الصبح

كان عم أنور هذا رجلاً غريبًا. يمشي في الشوارع وهو ينظر إلى الأرض وفي يده كيس يجمع فيه أي شيء يلمع.. صامولة، مسمار، علبة صفيح. ويرمي الكيس في البيت آخر النهار، في آخر العام يكون قد ملأ غرفة كاملة بكل تلك النفايات يقوم بملء صندوق معدني هائل (اختراع مصري صميم). كل عامل من العمال المصريين لا بد أن يمتلك واحدًا من هذه الصناديق عوضًا عن الحقائب يضع فيه كل شيء ويتم تسميره ولحامه ثم يشحنه معه على الباخرة أثناء عودته.

ذهبت للقاء عم أنور فسلمني لعم إبراهيم السباك وأوصاه بي وقال لي:

- اسمع كلام عمك إبراهيم.. ده راجل طيب

وذهبت في صحبة عم إبراهيم، الرجل الطيب الملتحي الذي يترك ما بيده بمجرد سماع الآذان ويذهب ليصلي ثم يعود بعد ساعة. كان عم إبراهيم سباك مقاولات. يأخذ العمارة قبل التشطيب وهي طوب أحمر ليركب في كل شقة خطوط شبكة المياه والصرف. يعلم بطباشيره على جدران الحمام والمطبخ خطًا مستقيمًا على ارتفاع معين ثم يبدأ العمل. الشاكوش الغليظ في اليمنى والأزميل في اليسرى، آخذًا في شق قناة في الجدار تسمح بتثبيت الماسورة وبعد ذلك يسد عليها بالأسمنت ويسويه بالمحارة فتختفي الماسورة تمامًا. كان عملي يتلخص في تجهيز الشغل له.

يحدد لي علامات على الماسورة حسب الأطوال اللازمة وأنا أقطعها بالمنشار، ثم أقلوظ الطرفين بالمضربيطة وأركِّب الكيعان (جمع كوع) والتيهات (جمع تي) في أماكنها الصحيحة.

كان الشغل يدوم ثماني ساعات يتخللها ساعة في وسط النهار للراحة والأكل والشاي والتدخين.

ثماني ساعات كاملة وأنا واقف على المضربيطة، أقلوظ المواسير وأجهد بذراعي حتى أدير عجلة المضربيطة بسرعة كي أنتهي من (المقطوعية) وأسبق عم إبراهيم الذي كان يحرجني كثيرًا بأن ينتهي من حفر الحيطان بينما أنا لم أنته بعد من قلوظة المواسير.

لم أتوافق مع عم إبراهيم ولم أستطع الانسجام في صحبته.. قضيت أربعة أيام كنت أعود إلى البيت في آخر كل يوم منها جثة هامدة ازدرد طعامي وانطرح على السرير. حتى الصباح.

في اليوم الخامس وبعد مضي ساعتين على بدء العمل،إذا بى أترك ذراع المضربيطة فجأة. لقد أخذت قراري. بدلت ملابسي ودخلت الحمام على عم إبراهيم المنهمك في تكسير الجدار – ماعلهش يا عم إبراهيم مافيش نصيب نكمل مع بعض. سلام عليكم. واستدرت تاركًا عم إبراهيم مشدوهًا لم يستوعب جيدًا ما حدث للتو بعد.

قلت لأبي:

- يا عم ده شغل عتالة، أنا عاوز شغلانة مافيهاش انتحار. وبحث أبي من جديد ووجد لي واحدة عن طريق (أبو رامي) صديقه. كانت الشغلانة عبارة عن مزرعة دواجن على بعد حوالي 50 كم من المدينة. وكان المفترض أن أقيم بالمزرعة. وأنزل المدينة مرة كل أسبوع أبيت ليلة وأعود في نفس الباص الخاص بالمزرعة في الصباح.

وجدتها مناسبة وفرحت بهذه العزلة التي لم أكن أخطط لها.

كانت المزرعة هائلة، تتكون من عدة عنابر كل عنبر به أكثر من عشرة صفوف بينها طرقات. كل صف به عدة أدوار و يتكون كل دور من زنازين صغيرة بقضبان نحيلة تقف فيها الدجاجة لا تستطيع الحركة بحرية، أمامها فتحة تخرج منها رأسها، ليجد قناتين متجاورتين إحداهما تجري فيها مياه الشرب والثانية تحتوي على العلف. أما في الخلف فتوجد قناة ثالثة داخلها سير يدور باستمرار يتلقف البيضة من مؤخرة الدجاجة ويذهب. الدجاجة تأكل من الأمام لتبيض من الخلف.. يأكل الدجاج طوال الوقت. وعرفت أن الدجاج لا يتوقف عن الأكل إلا في الظلام. طالما هناك ضوء وحَب فهو يأكل.

كانت المزرعة (بياضة) الدجاج موجودة فقط لإنتاج البيض. بعد عدة أشهر تكبر الدجاجة جدًا. وتاكل أكثر ولكنها تبيض أقل، فيتم عزلها في عنابر (الأمهات) لتباع لحمًا.

اصحوا مبكرًا وأدخل العنبر. أطمئن أولاً على النور. ثم أتأكد من سريان الماء والعلف بانتظام ومن سرعة دوران السير. ليس هذا فقط بل تكون أمامي عربة صغيرة أدفعها بيدي. كل عدة أمتار تكون دجاجة نافقة. أفتح الزنزانة وأخرجها وأرميها في العربة. بعدما أنتهي من اللف على كل الصفوف أتوجه بالعربة إلى الفرن. وهو غرفة سوداء واسعة ترمي فيها الدجاجات الميتة ثم القليل من الكيروسين وعود الثقاب. هذا هو عملي الأساسي. طوال النهار. أذهب كل ساعة لألقي نظرة.

أضبط كمية الأدوية التي تضاف إلى خزانات المياه. أو سرعة تدفق الماء والعلف. وأتأكد من مسح العمال للأرضية. ثم أعود إلى غرفتي. كانت غرفة بائسة ولكنني ارتحت لها. سرير ولمبة في السقف وكاسيت يخصني ومكيف وترابيزة وكرسي. الضروريات وحدها.

كان هناك عم فاروق المصري مدير المزرعة. يسكن هو وأسرته في شقة على بعد عدة أمتار. عندما كان يدخل شقته في آخر اليوم لا أعود أراه سوى في الصباح التالي.

أمضيت في هذه المزرعة أربعة أسابيع. لم أكن أعرف كيفية التصرف مع هذا الوقت الممتد الذي لا ينتهي. قرأت كل الكتب التي أتيت بها معي من مصر. الكتب انتهت وبقيت أنا والوقت وجهًا لوجه. في نهاية الأسبوع الرابع أنزلني الباص في المدينة. ذهبت إلى البيت، أكلت ونمت. في الصباح دخلت أمي لتوقظني. قلت لها:

- خلاص مش رايح الشغل تاني.

- وماله يا حبيبي كمل نومك.

* * *

بعدما تخرجت من الجامعة واصلت المعيشة بالإسكندرية، أنتقل بين الشقق المفروشة وكان معي أخي أشرف رحمه الله. قلت لعز صديقي وزميل علوم البحار:

- يا أخي أنا مكسوف من أبويا. أديني اتخرجت بقالي شهور ولسه بيبعتلي مصروفي. أنا لازم أشتغل.

عرفني عز على الأخ أشرف الطبيب الملتحي حديث التخرج والذي هجر الطب وقرر العمل بالتجارة. ظل فترة في البداية قبل أن نعرفه يتاجر في العطور ويقوم برحلات مكوكية بين مصر والسعودية لترويج تجارته. ثم اتجه إلى مجال لعب الأطفال. ذهبت أنا وعز ومعنا اثنان آخران مع أشرف إلى معرض كتاب الطفل الذي يسبق معرض الكتاب السنوي بأسبوعين. كان المعرض يحتل صالتين إحداهما لعرض الكتب والأخرى لبيع لعب الأطفال. لم نكن نكف عن العمل. ما بين رص الجناح وتنسيقه والبيع للجماهير الغفيرة. كنت تجد أحدنا إما ممسكًا بطائرة أو بندقية آلية. أو نافخًا لبالونة أو مصفرًا بصفارة أو مشخللاً بشخليلة. والأطفال يتهافتون على الشراء.

انتهى المعرض وفكر أشرف في تأجير مكان بالإسكندرية وإقامة معرض دائم للعب الأطفال. وبالفعل أجَّر مكانًا أسفل قصر ثقافة الحرية. كنت وقتها أحد أبرز روّاد نادي الأدب بالقصر. وقفت أنا وعز في المكان الجديد فترة، اكتشفت فيها كنزًا ثمينًا. إذ أن القاعة المؤجرة لأشرف كانت تنتهي بدهليز يقود إلى غرفة واسعة مهملة مليئة بالكتب التي تمرح بينها الفئران. كنت أقضي معظم الوقت في الدعبسة والنكش إلى أن أصادف كتابًا قيمًا فأضعه جانبًا. كانت الكتب مختومة بخاتم مكتبة قصر ثقافة الحرية وخاتم آخر يخص مكتبة قسم شرطة شارع شريف المجاور للقصر.

سألت وعرفت أن هذه الكتب مهداة من وزارة الثقافة للشرطة؛ وبعد فترة تُكهَّن فيتم إعادتها لمصدرها مرة أخرى ليُكهِّنها بمعرفته ويصرف لهم كتبًا جديدة.

قررت أن أكون أنا الأداة التي يكهِّن بها القصر تلك الكتب منقذًا إياها من الرطوبة والفئران. وكل يوم أثناء انصرافي أخرج وفي يدي لفة مربوطة بإحكام.

أخذت طبعات نادرة من دواوين المتنبي والبحتري وأبي تمام وأمرئ القيس، وعمر بن أبي ربيعة وطرفة، بالإضافة إلى الملعقات وشروحها، وكتبًا متنوعة في الفلسفة وعلم النفس والتاريخ.

باختصار أنشأت مكتبة كاملة مازالت عندي حتى الآن.

بعدما انتهيت من عملية الجرد والنقل لمكتبة القصر الكُهنة، تركت العمل مع أشرف أنا وعز أيضًا بلا أي مبرر وقلنا نبحث عن عمل آخر.

* * *

كنت قد أنهيت للتو الفصل الأخير الدامي من قصة الحب الأهم في حياتي، إثر خطاب تاريخي (مازلت أحتفظ بصورة منه) أعطيته لعفاف، أشرح لها مفندًا أسباب فشل علاقتنا وعدم قدرتها على الاستمرار. كنت رومانتيكيًا أحمقًا حتى النخاع ونبيلاً بمقاييس العصور الوسطى الساذجة.

أعطيتها الخطاب المُفخَّخ الذي انفجر في قاع سكينتها فانهارت. كنت قاسيًا وسخيفًا ومأساويًا أعمل بدأب طوال الوقت على الوصول بالأمور إلى نهايتها إلى أن تهدمت العلاقة فوق رأسينا وخرجت زاحفًا من تحت الأنقاض لأرتمي في أحضان الشقاء شهورًا طويلة.

فرَّت خيولكِ من دمي

وتسلّمتكِ الريح من شفتي

دوري في الفلك.

منفية بين الدروب خطاك يا تعبي

أراك على رصيف البرد تفترشين عريك

فاشرعي نهديك عرشا للطحالب

واستحمى بالحلك

ما أمل الدمّ المراق، وأجملَك

يا أيها الفتى

أكلُّ هذه الورود بين منكبيك؟

أهذه البحيرة الحمراء لك؟

يا أيها الفتى

لا تكمل الصهيل.

فقد تفزَّعت من برجك النحيل

آخر الحمائم المخضّبة

يا لها من سادومازوكية رهيبة. أتمنى أن أكون قد تخلصت تمامًا عبر رحلة العمر الماضية من هذا النوع القاتل من المشاعر.

كنت قد تخرجت بينما عفاف مازالت في السنة الأخيرة في كلية العلوم. كنت أموت شوقًا لرؤيتها من بعيد ولا أرغب في الذهاب إلى كافيتريا الكلية. حتى لا يبدو لها ضعفي وهزالي.

كانت قد حددت لي من قبل مكان بيتها بالورديان في مواجهة الجمرك. ذهبت لأستكشف وأدمنت الذهاب. اخترت القهوة الشهيرة المواجهة لبيتها والتي كانت مشغولة دائمًا بعمال وموظفي الجمرك. أجلس خارج القهوة على الرصيف وعيني طوال الوقت على الباب والبلكونة متمنيًا رؤيتها خارجة أو داخلة أو ظهورها في البلكونة لتنشر غسيلاً أو تلمه. ظللت أسابيع أرتحل كل يوم إلى ديار الحبيبة (الورديان) وأحطّ رحالي في المقهى وأبدأ العمل.

إلى أن فاجأني عز ذات يوم واقتحم عليّ عزلتي على الرصيف.

- تصور أن فادي السماك بيشتغل هنا في الجمرك. إيه رأيك

- بيشتغل إيه؟

- ملاحظ أنفار، بس طول النهار على مركب في المية. بيقولك شغلانة آخر روقان.

وذهبت أنا وعز في السابعة صباح اليوم التالي. وجدنا فادي يجلس بالمقهى. كان مكانًا بالغ البؤس يقدم الشاي والشيشة وسندوتشات الطعمية والجبنة بالطماطم. يتجمع فيه الشيالون والملاحظون إلى أن يأتي الريس على مقاول الأنفار الصعيدي الذي يرتدي الجلباب ذا الكم الواسع والعمامة الملفوفة على الرأس. يركن المرسيدس (الخنزيرة) ويتهادى إلينا ليجد أمامه كتلتين. الأكبر كتلة الشيالين والأصغر الملاحظين. ينتقي من كل جماعة عددًا محددًا. ويتبقى دائمًا بعض الأفراد هنا أو هناك ليعودوا خائبين إلى بيوتهم بلا عمل.

كان كل ملاحظ يذهب مع خمسة أو ستة شيالين إلى المكان الذي يحدده له الريس علي. الرصيف الفلاني أو المركب الفلانية.

أصعد أنا والشيالون إلى سطح المركب عبر سلم من حبال. وإن كانت المركب في عرض الماء نذهب إليها بأحد اللنشات. أولاً: ينزل الشيالون إلى باطن المركب العملاق هائل الاتساع والمملوء عادة بأجولة القمح. وأظل أنا على السطح. في يدي ورقة بها أسماء الشيالين. وهناك على الرصيف ونش عملاق يفرد ذراعه فوق المركب ويسقط منها حبلاً معدنيًا ينتهي بكلاّبات يشبك فيها الشيالون أطراف الشبكة التي تضم عددًا من الأجولة كان تتراوح بين 7 – 12 جوال.

أقوم أنا بعدّها أثناء صعودها وتأرجحها في الهواء إلى أن تنتهي على الرصيف أو على ظهر إحدى الترلاّت الجاهزة.

كانت مهمتي تتلخص في حصر عدد الأجولة في كل مرة ومجموعها في النهاية. تتوقف على هذه المعلومة عدة أمور. أهمها محاسبة الشيالين إذ كانت أجورهم تتحدد بعدد الأجولة التي تمكنوا من نزحها.

كانت اليومية 4 جنيهات، تقاضيت من الريس علي 160 جنيهًا بالتمام والكمال، إذ أن جملة ما اشتغلته من أيام كان 40 يومًا موزعة على عدة أشهر. يوم في الجمرك أعد الأجولة ويومان على رصيف المقهى. ألعق البيت المقابل بنظراتي.

* * *

تعرفت على علاء خالد سنة 1983 كنت أنا في السنة الثالثة علوم بحار وهو في بكالوريوس كيمياء حيوية. إثر حفلة أقامتها الكلية في أحد المدرجات ودعت شعراء الإسكندرية وقلت يومها قصيدة اسمها: "عودة الشاطر المنهزم" قوبلت باحتفاء كبير. حتى أن خالد سعد زميلي في علوم البحار وصاحب النزوع الفني كتبها بخط جميل على فرخ ورق كبير وجعل خلفية الكلام رسومًا رشيقة سابحة وعلقها في ساحة الكلية ليقرأها (الرايح والجاي).

كانت قصيدة رومانسية حزينة، أقلد فيها صلاح عبد الصبور.

فوجئت ذات يوم بفادي السماك زميلي في علوم البحار يقول لي أن هناك شخصًا يريد التعرف عليّ. وهكذا التقيت بعلاء خالد.

وعن طريق علاء تعرفت على سهام ثم مهاب ومحمد وإيناس. صرنا أصدقاء لا نفترق مدة عشر سنوات تقريبًا.

ربطتنا أواصر قوية لكنها لم تكن بقوة الزمن الذي أطلق قوارضه على تلك الأواصر فأتت عليها.

لكني لم أشأ أن تتبدد صداقتي القوية بعلاء هكذا. انتظرت حتى مرت العاصفة. ثم أعدنا بناء صداقتنا من جديد.

كان محمد وما زال طاقة لا تهدأ. لا يكف عن العمل وكان دائم الدخول في مشاريع هو ومهاب لها علاقة بالفن ولها أيضًا جانبها الربحي.

أنشأ ورشة طباعة (سيلك سكرين / على القماش)، وتعاقدا مع مصنع ملابس داخلية، ليتم طباعة اللوجو (Junior) على الفانلة والكيلوت.

اتخذا شقة في (بوكله) جعلا منها ورشة بها غرفة مخصصة لتجهيز الشابلونات وتصميم اللوجو وغرفتان أخريان للاستراحة والنوم.

وفي الصالة منضدة مجهزة للشغل. يخرج منها ثمانية بروزات شبه بيضاوية.

يمر أحد العاملين لتلبيس الكيلوتات أو الفانلات في هذه البروزات. ووراءه يمر من يحمل الشابلونة، ليضعها في مكان محدد من قبل بزوايا خشبية ثابتة.

الشابلونة من الحرير وبها عجينة اللون. يتم سحبه بسكينة خاصة ويتخلل اللون الفراغات المجهزة وينطبع الرسم أو اللوجو المطلوب بلون محدد.

ثم قد يمر آخر بشبلونة أخرى. بها فراغات مختلفة لطبع إطار أو خط أو رسم بلون آخر. وخلفهما يمر ثالث لنزع القطع المطبوعة ليمر الأول مرة ثانية لتلبيس قطع جديدة وهكذا.

أصبحت الورشة مأوى لي. في الصباح يأتي محمد ومهاب ثم العمال بعد ذلك ويبدأ العمل بعد أن نفطر سويًا ونشرب الشاي. كنت أنخرط في العمل ممسكًا بالشابلونة عدة ساعات، ثم أمل فأستريح لأقرأ أو لأنام أو لأثرثر مع محمد ومهاب بينما هما منشغلان بأمر من الأمور.

كان محمد يحاسبنا بالساعة. فبينما كان (توتو) (الصبي الوحيد وسط مجموعة من العاملات) يحصل على 400 جنيه في الشهر. كنت أنا بالكاد أتحصل على 100 جنيه وأستدين من محمد ما يعينني على انقضاء الشهر إلى أن يصلني من أبي الخطاب الشهري وفيه الحوالة المعتادة.

عقب انتهاء يوم العمل. يذهب مهاب للغداء في البيت بينما نتغدى سويًا أنا ومحمد وإيناس (عادة كان محمد يذهب إلى الجزار الفخم الذي يفتح محله في الشارع المفضي إلى الترام ويقول له

- اوزن لي ربع بفتيك من فضلك. وبعد أن يزنه له يقول له:

-  إشويه.. لو سمحت

وكنت في أعقاب محمد أطلب لنفسي ثُمن بفتيك مشوي. كان الرجل سمحًا إلى درجة كبيرة. كان يقطع لنا الرقائق القليلة ويدقها بعناية ثم يشويها لنا بلا أدنى تأفف.

في المساء كنا نلتقي بإحدى مقاهينا المحببة (عيدة، الكريستال، الوطنية) يأتي محمد مع إيناس وعلاء مع سلوى ومهاب مع سهام. وبعد انقضاء السهرة يذهب كلٌ إلى بيته وأنا إلى شقة بوكلة (بيتى).

كانت علاقتي بـ(ح) قائمة في هذه الأثناء وآخذة في التطور يومًا بعد يوم إلى أن أصبحت فكرة الاختلاء ببعضنا في مكان مغلق أمر محببًا ومرغوبًا. كانت عمتها – صديقتها تأتي بصحبتها كل موعد. تسلّمها لي وتذهب لأعود وأسلمها لها في الموعد المقرر وفي نفس المكان.

كنا نصعد من فورنا إلى الشقة (شقة بوكلة) لنجاهد جهادنا العظيم "أيتها الشقة الحبيبة، يا شقة بوكلة، إنني مدين لك، بأجمل أيام حياتي".

Top